رأى ساخط
عن مهرجان المسرح المصرى ..
مهرجان بلا روح .. ووزير بلا قلب
ثقافة تحتضر ومسرح يعاد حرقه
ناصر كامل
"دي باين فيه حريقة قالتها سيدة مسنة: تجر خلفها صبي محكٌمة إمساكها بكفه: ومضت في طريقها تهرول فزعة،والصبي خلفها يحاول مجارتها متلفتا حوله بقلق وحيرة. كانت سيارة الإسعاف تقف خلف سيارة إطفاء الحرائق،وأمامهما تقف سيارتا نجدة،وكان المدعون لحضور المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الأولي يدخلون مسرح الجمهورية،غير منتبهين للمشهد الدال،الذي يلخص بحق إحدي علامات احتضار الثقافة المصرية:ببطء قاس ومؤلم منذ زمن طويل:ويعبر عن شعور الناس بغربة عن أنشطة مؤسسات الدولة الثقافية المنعزلة بعيدا عنهم.
لم يكن الحضور كافيا لملأ مقاعد المسرح . وبدأ حفل الافتتاح كالعادة متأخرا عن موعده المحدد والمعلن. وكالعادة أيضا كان الحفل من إخراج وليد عوني،الذي يقاسمه المخرج خالد جلال إخراج حفلات افتتاح كل مهرجانات وزارة الثقافة :وأحيانا مهرجانات وزارات وهيئات أخري .
فتح ستار المسرح علي شاب نائم علي الخشبة في وضع الجنين:ركبتاه مضمومتان إلي صدره،وهو عاري إلا من شورت قصير خلفه ستارة بيضاء .بدأ العرض بحركات بسيطة للشاب النائم ما يوحي بانطلاق الميلاد،وخلفه :ومن وراء الستارة البيضاء:تثب للأمام: باتجاه الشاب والجمهور: وجوه وأياد وأرجل وأجساد،ما يوحي بالأشباح.وبإيقاع متزامن يتحرك الشاب والأشباح كل في اتجاه الأخر حتي تم "الميلاد ويتصارع المولود والأشباح القادمة من الخلف،من الماضي ،فينتصر المولود وتختفي الأشباح .وتظهر علي الستارة البيضاء أرقام سنوات تتسارع عبر شريط مصور ثم تثبت سنة 2006 علي الشاشة وتظهر كلمة "مبروك ..
فكرة خفيفة،بسيطة،مقبولة،يفهم منها أن المهرجان انطلاقة جديدة للمسرح المصري.لكن التالي من العرض يعتبر بكل المقاييس فضيحة فنية ،وتعبير عن جهل بتاريخ المسرح المصري،وإساءة متعمدة لفنانيه وخاصة المكرمين في المهرجان.فالشريط المصور بدأ بعرض صور فوتوغرافية لمجموعة مختارة من ممثلي المسرح،مبتدأ بصورة جورج أبيض ما يعني تجاهل مئات من الفنانين المصريين والعرب،وتاريخ ربع قرن علي الأقل،فالمسرح المصري لم يبدأ بالتأكيد مع أبيض ،اللبناني المتمصر مثل مخرج العرض عوني ،لكنها الذاكرة الانتقائية التي تشوه الوعي،والاستسهال وعدم الكفاءة اللذان يتجليان بوضوح شديد في أن كل صور الفنانين الفوتوغرافية المعروضة عبر الشريط المصور هي أما بورتريهات شخصية ،أو صور مأخوذة من مشاهد أفلام سينمائية .ألم يكن الأصوب أن تكون الصور المعروضة للفنانين ملتقطة لهم من مسرحيات قدموها فتظهرهم في شخصياتهم المسرحية؟فما الفرق بين عرض افتتاح مهرجان مسرح وافتتاح مهرجان سينما إلا ذلك الفارق البسيط ؟لكنه فارق يدل علي غياب الوعي بالمسرح وعدم الاكتراث به ،وربما احتقاره .لأنه ما الذي يفهم من تعريف الفنان الراحل حمدي غيث عند النداء علي أسمه لتتلقي زوجته شهادة تكريمه بأنه ريتشارد قلب الأسد وهو اسم الشخصية التي قام بأدائها في فيلم الناصر صلاح الدين ،ثم النداء علي اسم الراحل عبد المنعم مدبولي بلقب بابا عبده وهو اسم الشخصية التي قام بأدائها في المسلسل التلفزيوني الذي يحمل ذات الاسم .مسرحيان يعرٌفان في مهرجان مسرحي:من خلال دورين سينمائي وتلفزيوني:دليل قاطع علي جهل المشرفين علي المهرجان بقيمة المسرح والمسرحيين .
لكل من مدبولي وغيث إنجاز هام في السينما والتلفزيون لكنه لا يقارن إطلاقا برصيديهما المسرحي الهائل والمؤثر.
احتقار المسرح
احتقار وزارة الثقافة للمسرح يظهر جليا من خلال سلوك الوزير فاروق حسني وقيادات وزارته عقب حفل الافتتاح.فبعد العرض،ومصافحة لجنة التحكيم ،وتقديم شهادات التكريم،أدلي الوزير لممثلي محطات التلفزيون ومراسلي الصحف بكلمات خالية من المعني ،والتقت له الصور، ثم غادر المسرح،وفي ركابه كل المسئولين،وكل النجوم .وبعدهم غادرت الكاميرات .وهكذا رفع الستار عن مسرحية افتتاح المهرجان لجمهور يشغل أقل من نصف مقاعد المسرح .الغالبية أذن جاءت من أجل أن تقف أمام العدسات .فالمراد والغاية هي الصورة التي سترفق بالأخبار التي ستنشرها الصحف وتبثها الشاشات لتصل للناس صورة زائفة تدعي أن الدولة تقوم بدورها:تهتم بالمسرح ،تنفق عليه ،وتقيم له المهرجانات،وتكرم فنانيه،وأحيانا تقدمه مجانا .
بينما صورة الحقيقة تؤكد أن الدولة سعيدة باحتضار المسرح،متلهفة للقضاء عليه و حرقه وألا فما معني أن يتجاهل المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الأولي ضحايا التراجيديا التي سيظل تاريخ المسرح في العالم كله يذكرها:شهداء حريق مسرح بني سويف.ألم يكن من واجب المهرجان أن يكرم أسماءهم ؟هل كثرت علي الدولة أعدادهم ؟مفهوم أن ذلك يتعارض مع لائحة المهرجان التي تنص في المادة السادسة علي أن: يقوم المهرجان بتكريم عدد من فناني المسرح ورموزه بحيث لا يزيد عدد المكرمين عن ثلاثة بالإضافة إلي إحياء ذكري واحد من الراحلين في كل دورة وذلك بإهدائهم تمثال المهرجان وشهادة التقدير وإعداد كتاب عن كل مكرم لكن تكريم غيث ومدبولي في نفس الوقت يتعارض أيضا مع اللائحة،يمكن أن يقال إن قرار تكريم مدبولي تم اتخاذه قبل رحيله.والرد: كان يمكن تأجيل تكريم غيث إلي الدورة المقبلة ليكون المهرجان ملتزما بلائحته .
وقد يقال إن المطبوعات والكتب تم الانتهاء من طباعتها ولم يعد هناك وقت لتعديلها، وإن الاستثناء الذي جري فرضته ظروف خارجة عن إرادة البشر .ويكون الرد عندها : شهداء بني سويف هم الاستثناء المطلق في كل تاريخ المسرح منذ عرفته البشرية،وأنه لو توفرت الرغبة في تذكرهم وتكريمهم لكانت المسائل الإجرائية سهلة .كأن يكون التكريم في نفس حفل الافتتاح ،ولكن بصيغة غير مهرجان القومي للمسرح المصري يكرم شهداء بني سويف ويكون مثلا: المسرح، أو الشعب، المصري يكرم شهداء مسرح بني سويف ،وعندها تصدر شهادات التكريم عن الوزارة مثلا ،لا عن المهرجان.الحلول كثيرة لو توفرت الرغبة . فهل يمكن أن يتجرأ أحد،والحال هكذا، ويدعي وجود حياة وروح في هذا المولود الجديد المسمي المهرجان القومي للمسرح المصري وهو يتعامي عن الفاجعة،ويدفعنا لتناسيها عبر تجاهله لها؟ألم يطرأ ببال أحد ما يمكن أن تشعر به عائلات وأصدقاء وزملاء شهداء الخامس من سبتمبر 2005 وهم يشاهدون صور مهرجان المسرح الذي لا يريد تخفيف أحزانهم علي أعزائهم الذين فقدوهم بسبب الفساد المتغول في مؤسسات وأجهزة الدولة ؟ولنتساءل ما هو هدف تكريم الفنانين الأحياء منهم والراحلين،أليس الإعراب لهم،ولعائلاتهم،عن تقدير الدولة والمجتمع لعطائهم الفني ،فهل هناك عطاء أكثر قيمة من الحياة نفسها التي فقدها شهداء بني سويف وهم يحاولون إنقاذ المسرح من احتضاره الطويل ؟
مغادره الوزير ورجاله وعدم مشاهدتهم مسرحية الافتتاح دليل إضافي علي الرغبة في تجاهل،وازدراء أرواح الشهداء،والاستخفاف بأحزان المفجعين في ذويهم الراحلين .فمسرحية بيت الدمية لأبسن قدمتها فرقة قصر التذوق بالإسكندرية،من إخراج جمال ياقوت الذي يهدي المسرحية إلي روح الأحباء:مؤمن عبده،ياسر ياسين،سامية جمال،الذين لا تفارق صورهم ذاكرتنا فالثلاثة كانوا ضمن شهداء بني سويف.وعن ياقوت يكتب مدير إدارة المسرح بقصور الثقافة الدكتور محمود نسيم في تقديمه للمسرحية: خرج من حريق المسرح في يوم الهول ليمضي أياما مثقلة بالجروح والآلام،ولكنه يسترد روحه المتصلة بالمسرح لكن يبدو أن الوزير ورجاله لا يريدون أن يسترد ياقوت وزملاؤه روحهم المتصلة بالمسرح،إنهم بمغادرتهم المسرح يريدون إزهاق هذه الروح ،والتعجيل بموت جسد الثقافة .جسد الثقافة المتمثل في الأجهزة والمؤسسات التي هيمن عليها جهاز الدولة البيروقراطي ويديرها:نيابة عن المجتمع في معزل عن أي تفاعل معه:إدارة فاسدة مفسدة،جهولة.
هذا الجسد البيروقراطي الذي كانت له مسوغات وجود في الحقبة الناصرية بتوجهاتها الشعبوية:علي الرغم من كل الخطايا التي ارتكبتها،وأخطرها تأميم و قمع المبادرة الثقافية المستقلة عن الدولة:أصابته التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في العقود الثلاثة الماضية بأمراض قاتلة بات معها استمراره بهذا الأداء وبقيادة هذه الوجوه جريمة بكل المقاييس.
زفة إعلامية
ويمثل المهرجان القومي للمسرح بالصيغة التي عقدت وفقها الدورة الأولي عرض دال لهذه الأمراض. فلائحته تحدد في مادتها السابعة الفرق التي من حقها التقدم للمهرجان جامعة كل النشاط المسرحي المصري من إنتاج :البيت الفني للمسرح مسرح المحترفين التابع للدولة والبيت الفني للفنون الشعبية مسرح محترف وتابع للدولة هو أيضا ومركز الهناجر للفنون ومركز الإبداع الفني وهما مركزان لنشاط الهواة تموله الدولة ثم فرق الهواة ،وبعضها تمولها الدولة: الهيئة العامة لقصور الثقافة،فرق المسرح الجامعي ،وفرق مسرح مديريات الشباب،وفرق المسرح العمالي ،وفرق مسرح معهد الفنون المسرحية ،وفرق هواة المسرح،أو أية هيئة مسرحية
ثم الفرق المستقلة والحرة،وأخيرا المسرح الخاص.إذن يحق لثمان مجموعات من الفرق المشاركة في المهرجان والدخول للمسابقة التي هي بحسب تكوين المهرجان ولائحته الغاية الأهم .فأي عاقل هذا الذي فكر في أن يدخل هذا الخليط الذي لا يوجد بين مكوناته أية مشتركات سوي أنهم جميعا يقدمون مسرح للجمهور في مسابقة ،وأية شروط غير عادلة تلك التي تجعل فرقة هواة في نادي مسرح في قرية نائية لا تتعدي ميزانيتها ألفي جنيه تتنافس مع فرق المحترفين التي تقارب ميزانيات بعضها الملايين.قد توجد مجموعة مبدعة في تلك القرية النائية تستطيع تقديم عرض يتفوق فنيا وجماليا علي الجميع ،لكن هذه الفرضية ضد كل الشروط الموضوعية التي تجعل المنافسة غير عادلة بالمرة .ومستحيل أن تكون مفيدة للمسرح المصري.
وفي المادة التاسعة من اللائحة تتحدد أماكن عروض المهرجان في منطقتين: منطقة الأزبكية وما حولها، ومنطقة ساحة دار الأوبرا .أي أن المهرجان القومي للمسرح حدد وجوده في القاهرة في المسارح المعروفة ،لماذا لم يفكر الذين وضعوا استراتيجية المهرجان في عقده كل عام في محافظة مختلفة ليتعرف المحرومون من المسرح علي المسرح الذي ينفقون عليه من أموالهم .لكن المركزية البيروقراطية لا تحتمل مغادرة العاصمة التي "تنهب حقوق باقي الشعب . ترتحل الفرق من النجوع والقري إلي المركز الذي يتجاهلها،ويستبد بها،بل يحتقرها،ولا يفكر سادة العاصمة في مغادرة مكاتبهم المكيفة. المادتان السابعة والتاسعة من لائحة المهرجان تؤكدان أن الذين فكروا في عقده أرادوا فقط إنشاء "شوا جديد بروبجندا فجة زفة إعلامية،تبدد فيها الأموال،وتلتقط الصور،وتدور الكاميرات التلفزيونية صانعة زيف ثقافي ومسرحي يضاف لما هو موجود.زيف يراكم الإحباط واليأس في نفوس الفنانين الحقيقيين.فنانون موجودون في كل مكان في مصر لا يجدون فرصا للتعبير والتطور والإبداع .وكل ما يتيحه لهم المهرجان الفرجة علي رسائل التلفزيون عن المهرجان،وقراءة متابعات الصحف.فما هو إذن تزييف الوعي غير ذلك؟،ومما يتولد اليأس غير من أن لا يكون أمام الفنان الحقيقي البعيد عن "العاصمة_المركز إلا الحرمان والحسرة؟.
منظمو المهرجان،وواضعو لائحته يفعلون ذلك عن قصد بالتأكيد،وليس عن سوء تقدير ونسيان .فهم متأكدون من أن جريمتهم في بني سويف جعلت بيروقراطية الأقاليم مرعوبة من تكرارها،لذلك يتعللون بأنه لا توجد مسارح كافية مجهزة جيدا،وأن التكلفة ستكون مضاعفة في حال نقل المهرجان من العاصمة إلي الأقاليم ،ولكن كل هذا نتاج سياستهم .وأي تفكير منطقي يرغب في تجاوز كل ذلك عليه أن يبدأ من بني سويف. فلماذا لا يغير المهرجان موعد انعقاده ليكون يوم 5 سبتمبر من كل عام؟.علي أن يقام كل مرة في محافظة ،وتكون المرة المقبلة في بني سويف نفسها،في أي مكان يصلح للعروض المسرحية إذا لم يكن مسرح المدينة مناسبا ،وليكن العام الفاصل هذا تحديا للدولة لتهيئة مسرح المدينة،والتفكير في أماكن بديلة،ويمكن مد فترة المهرجان لتتناسب مع عدد الأماكن المتاحة. علي أن تلغي المسابقة المجحفة الشروط ،بحيث يكون الهدف أن يشاهد جمهور بني سويف الأفضل من بين كل الإنتاج المسرحي ،المحترف والهاوي. لو تم التفكير في هذا جيدا لكن ذلك وفاء بسيط لأرواح شهداء المسرح،ولأسرهم وأصدقائهم وزملائهم .
أما مهرجان المسرح التجريبي،الذي ينعق في الأول من سبتمبر كل عام ،فيمكن تأجيله إذا كان صعبا أن ينشغل المسئولون بالمهرجانين في نفس الوقت.وسيكون مبرر التأجيل بالنسبة للفرق الأجنبية التي اعتادت المشاركة في المهرجان في نفس الموعد كل عام،مقبولا ،بل سيكون تعبيرا عن مدي احترام الفنان المصري للمسرح وفنانيه.
تواطؤ الفساد والصمت
ولكن هل ينقذ هذا مسرح الدولة ؟ لا لن ينقذه،إنها محاولة فقط لمعالجة هذا المولود المشوه وقد تبرأ القائمون عليه من جريمة العدوان المستمر علي أرواح الشهداء الذي مثله تجاهل المهرجان لهم .
أما إنقاذ المسرح فيحتاج تفكير أخر.تفكير من الجميع :مؤسسات الدولة،والمجتمع،والفنانون.ذلك لأن هناك تواطؤ علي الفساد بين الأطراف الثلاثة .تواطؤ بين الدولة والمجتمع ظهر في اختيار أغلب أعضاء "نقابة المهن التمثيلية لأشرف زكي نقيبا لهم،من دون أن يزعجهم أنه جمع بين كونه رئيسا للبيت الفني للمسرح وهي الجهة الإنتاجية الأهم في المسرح ،وكونه نقيبا.أي أن الفنان الذي يريد أن يشتكي من مسرح الدولة الذي يرأسه زكي:لأي سبب كان:سيذهب إلي زكي نفسه ،الذي أصبح خصما وحكما في نفس الوقت .
وتواطؤ بين فساد مؤسسات الدولة وبين صمت وأسي الفنانين،يتضح من الحكاية الطريفة التالية: ذهبت يوما،قبل نحو أربع سنوات، لتسلم راتبي من مسرح الشباب الذي أعمل فيه،ولم يكن أمين الخزنة قد أحضر الرواتب من البنك بعد،وكان الفنانون والموظفون متململين من الانتظار،وحين حضر راح يعد النقود ببطء مثير للأعصاب، لم يقطعه سوي الفنان ياسر علي ماهر،الذي كان قادما لتوه من الخارج،صائحا بصوت جهور : يلا فين بدل الصمت! وأردف : دا مش مرتب،دا بدل صمت، الحكومة بتدوهلنا عشان نفضل ساكتين ومنفضحهاش علي اللي بتعمله فينا،يلا بسرعة وللغرابة أسرع الصراف بإخراج الكشوف ليوقع الفنان الجميل بالاستلام ،لكنه "الفنان رفض قائلا : الفلوس قبل التوقيع الحكومة مش مضمونة! وبالفعل أعطاه الصراف الفلوس بسرعة،ومضي ياسر بعد أن أبتسم للجميع وحياهم،وكانوا يشعرون بسعادة ما مما قاله ياسر بروحه المتهكمة المرحة . وكان الفنان التالي أقل مرحا فأطلق علي المرتب تعبير إعانة بطالة
كنت صامتا عندما جاءني الدور. أشعر بمزيج من الخجل والأسي والضيق.خجل لأني أتقاضي راتبا شهريا من الدولة من دون أن أؤدي أي عمل،فحتي اليوم،وعلي الرغم من مرور حوالي أكثر من 15 عاما علي تعييني في مسرح الشباب لم أشترك سوي في مسرحية واحدة، لم تتجاوز فترة التدريبات والعرض أكثر من أربعة أشهر.وشعور بالأسي لأني فكرت مرات أن أستقيل من هذه الوظيفة قصدي أستقيل من اللاوظيفة لكن نصائح الأصدقاء كانت أقوي من مثاليتي التي ظلت تتضاءل وتتجفف مع كل راتب جديد استلمه من دون أن أؤدي عنه عملا ،ليس تقاعسا مني ،بل لأن إدارة المسرح لا ترغب في أن يعمل أعضاؤه.طبعا حالتي ليس فردية أبدا فالغالبية من فناني مسرح الدولة علي هذا الحال.
وكنت أشعر بضيق لأني لم أعثر علي التعبير والوصف المناسب لما أتقاضاه..
أمام مسرح الشباب
يصلح مسار مسرح الشباب طوال الفترة التي قضيتها عضوا في فرقته نموذجا دالا علي حال الاحتضار الطويل والبطيء الذي يعاني منها المسرح ،وحال التواطؤ المركب علي الفساد بين الدولة والفنانين. فطوال ال15 عاما كان مقر الفرقة يتنقل بين أماكن مؤقتة،والموظفون والفنانون أشبه بالمهجرين،في وضع أسوأ من البدو الرحل والغجر،فهؤلاء يرثون نمط حياتهم،وقد يجدون فيها سعادة ما.انتقلت الفرقة من الغرفة الصغيرة الملحقة بمقر مسرح معهد الموسيقي العربية في شارع رمسيس إلي غرفة في المسرح العائم ،ثم إلي غرفة في مسرح مصر الذي أعاده حكم المحكمة إلي مالكيه ،بعد عدة أشهر من وجودنا في غرفته القبيحة للغاية ،وسط حديث عن فساد مالي وإداري أدي لضياع المسرح من الدولة ،لتنتقل الفرقة إلي غرفة في مسرح ميامي لبضعة أشهر "تهجر الفرقة بعدها إلي ثلاث غرف ملحقة بغرف تصنيع الديكور التابعة للمسرح القومي وفق شروط قاسية ،منها :ألا يدخل الفنانون والموظفون مسرح الشباب من باب القومي ،بل يدخلون من باب جانبي من أمام موقف الأتوبيسات في العتبة ،وألا يستخدم الفنانون والموظفون دورات المياه التابعة للقومي . ومن يضطر منهم يجد نفسه أمام ثلاثة خيارات :أما الذهاب للمسجد المقابل، أو دورة المياه العمومية في الميدان، أو الانتظار حتي يعود لبيته .أما الغرف الثلاث فلا يمكن تصور أبشع من منها مكان لممارسة أي نشاط إنساني وظيفي وفني.
تولي إدارة الفرقة خلال هذه المدة خمسة مديرون.حدثت مع ثالثهم المخرج عبد الغني زكي واقعة تشخص بدقة الكيفية التي تختار بها الدولة رجالها .كان زكي المدير يخرج عرضا للفرقة في الإسكندرية،وحدث بعض التأخير في صرف مستحقات الفنانين المالية، فأوعز المدير للفرقة أن ترسل رسالة استغاثة لوزير الثقافة ،ووقع عليها العاملون في المسرحية إلا هو . وفي اليوم التالي ذهب رئيس البيت الفني وقتها الناقد سامي خشبة للإسكندرية حاملا من الوزير رسالة شفوية لمدير الفرقة والمخرج مفادها "إن الدولة اختارتك لتولي هذا الموقع كي تخمد الحرائق ،وتسكت الشكوي،وتطرد المتذمرين، فكيف تقف وراء ذلك ، واجبك أن تسكن لا أن تأجج أما كيف عرف الوزير سريعا هكذا بأن المدير هو المحرض فظل محل استغراب المدير طوال حديث خشبة إلي أن سلمه الرسالة الخطية قرار الإقالة .
المدير الرابع كان الراحل الدكتور محسن مصلحي _أحد شهداء بني سويف الذي احترم نفسه وبر بوعده وقدم استقالته لأن الوزير لم يف بتعهده بتخصيص مسرح ومقر لائق للفرقة خلال عام علي الأكثر.
أما المدير الحالي،خالد جلال،فيكفي للتدليل علي كفاءته في إدارة الفرقة أنه لم يذهب لتلك الغرف الثلاثة منذ أن تولي،في نفس الوقت،إدارة مركز الإبداع الفني .يذهب إليه الموظفون بالأوراق ليوقعها في المركز ،ويذهب إليه هناك أيضا الفنانون لمناقشة مشاريعهم التي ينتجها مسرح الشباب.من الأفضل ألا تسأل عن الحكمة في أن يجمع جلال بين إدارة الفرقتين فذلك يدخل في باب النظر إلي أرزاق الناس وهو أمر غير مستحب.
لكن هناك سؤال أخير ضروري،وإن كان يتعلق بالأرزاق:كم تكلف حفل افتتاح المهرجان،وكم كان أجر المخرج وليد عوني عن إخراجه تلك "الإساءة المتعمدة للمسرح والمسرحيين المصريين ؟
مجلة أخبار الأدب
0 Comments:
Post a Comment
<< Home